فصل: باب تعزية المصاب وثواب صبره وأمره به وما يقول لذلك‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب تعزية المصاب وثواب صبره وأمره به وما يقول لذلك‏.‏

1 - عن عبد اللَّه بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه اللَّه عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

2 - وعن الأسود عن عبد اللَّه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏من عزى مصابًا فله مثل أجره‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه والترمذي‏.‏

3 - وعن الحسين بن علي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعًا إلا جدد اللَّه تبارك وتعالى له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه‏.‏

حديث عمرو بن حزم رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثني قيس أبو عمارة مولى الأنصار قال‏:‏ سمعت عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فساقه وهؤلاء كلهم ثقات إلا قيسًا أبا عمارة ففيه لين وقد ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه‏.‏ وحديث ابن مسعود أخرجه أيضًا الحاكم وقال الترمذي‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم‏.‏ ورواه بعضهم عن محمد ابن سوقة بهذا الإسناد مثله موقوفًا ولم يرفعه ويقال أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم هذا الحديث نقموه عليه انتهى‏.‏ قال البيهقي‏:‏ تفرد به علي بن عاصم وقال ابن عدي‏:‏ قد رواه مع علي بن عاصم محمد بن الفضل بن عطية وعبد الرحمن بن مالك بن مغول‏.‏ وروي عن إسرائيل وقيس بن الربيع والثوري وغيرهم‏.‏ وروى ابن الجوزي في الموضوعات من طريق نصر بن حماد عن شعبة نحوه‏.‏ وقال الخطيب‏:‏ رواه عبد الحكم بن منصور والحارث بن عمران الجعفري وجماعة مع علي بن عاصم وليس شيء منها ثابتًا ويحكى عن أبي داود قال‏:‏ عاتب يحيى بن سعيد القطان علي بن عاصم في وصل هذا الحديث وإنما هو عندهم منقطع وقال‏:‏ إن أصحابك الذين سمعوه معك لا يسندونه فأبى أن يرجع قال الحافظ‏:‏ ورواية الثوري مدارها على حماد بن الوليد وهو ضعيف جدًا وكل المتابعين لعلي بن عاصم أضعف منه بكثير وليس فيها رواية يمكن التعلق بها إلا طريق إسرائيل فقد ذكرها صاحب الكمال من طريق وكيع عنه ولم أقف على إسنادها بعد‏.‏ قال في التلخيص‏:‏ وله شاهد أضعف منه من طريق محمد بن عبد اللَّه العرزمي عن أبي الزبير عن جابر ساقه ابن الجوزي في الموضوعات وله أيضًا شاهد آخر من حديث أبي برزة مرفوعًا‏:‏ ‏(‏من عزى ثكلى كُسِيَ بردًا في الجنة‏)‏ قال الترمذي‏:‏ غريب‏.‏ ومن شواهده حديث عمرو بن حزم الذي قبله قال السيوطي في التعقبات‏:‏ وأخرج البيهقي في الشعب عن محمد بن هارون الفأفاء وكان ثقة صدوقًا قال‏:‏ ‏(‏رأيت في المنام النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقلت‏:‏ يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حديث علي بن عاصم الذي يرويه عن ابن سوقة‏:‏ ‏(‏من عزى مصابًا هو عنك قال‏:‏ نعم‏)‏ فكان محمد بن هارون كلما حدث بهذا الحديث بكى‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ أبلغ ما شنع به على علي بن عاصم هذا الحديث وهو مع ضعفه صدوق في نفسه وله صورة كبيرة في زمانه وقد وثقه جماعة قال يعقوب بن شيبة‏:‏ كان من أهل الدين والصلاح والخير والتاريخ وكان شديد التوقي أنكر عليه كثرة الغلط مع تماديه على ذلك‏.‏ وقال وكيع‏:‏ ما زلنا نعرفه بالخير فخذوا الصحاح من حديثه ودعوا الغلط‏.‏ وقال أحمد‏:‏ أما أنا فأحدث عنه كان فيه لجاج ولم يكن متهما‏.‏ وقال الفلاس‏:‏ صدوق‏.‏ وحديث الحسين في إسناده هشام بن زياد وفيه ضعف عن أمه وهي لا تعرف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من عزى مصابًا‏)‏ فيه دليل على أن تعزية المصاب من موجبات الكسوة من اللَّه تعالى لمن فعل ذلك من حلل كرامته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فله مثل أجره‏)‏ فيه دليل على أنه يحصل للمعزي بمجرد التعزية مثل أجر المصاب وقد يستشكل ذلك باعتبار أن المشقة مختلفة ويجاب عنه بجوابات ليس هذا محل بسطها‏.‏ وثمرة التعزية الحث على الرجوع إلى اللَّه تعالى ليحصل الأجر‏.‏ قال في البحر‏:‏ والمشروع مرة واحدة لقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏التعزية مرة‏)‏ انتهى‏.‏ قال الهادي والقاسم والشافعي‏:‏ وهي بعد الدفن أفضل لعظم المصاب بالمفارقة‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ إنما هي قبله لقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا وجب فلا تبكين باكية‏)‏ أخرجه مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والمراد بالوجوب دخول القبر كما وقع في رواية لأحمد ولأن وقت الموت حال الصدمة الأولى كما سيأتي والتعزية تسلية فينبغي أن يكون وقت الصدمة التي يشرع الصبر عندها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب‏)‏ فيه دليل على أن استرجاع المصاب عند ذكر المصيبة يكون سببًا لاستحقاقه لمثل الأجر الذي كتبه اللَّه له في الوقت الذي أصيب فيه بتلك المصيبة وإن تقادم عهدها ومضت عليها أيام طويلة والاسترجاع هو قول القائل إنا للَّه وإنا إليه راجعون‏.‏

4 - وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إنما الصبر عند الصدمة الأولى‏)‏‏.‏

رواه الجماعة‏.‏

5 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏(‏لما توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلًا يقول‏:‏ إن في اللَّه عزاء من كل مصيبة وخلفًا من كل هالك ودركًا من كل فائت فباللَّه فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب‏)‏‏.‏

رواه الشافعي‏.‏

6 - وعن أم سلمة قالت‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا للَّه وإنا إليه راجعون اللَّهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا أجره اللَّه في مصيبته وأخلف له خيرًا منها قالت‏:‏ فلما توفي أبو سلمة قالت‏:‏ من خير من أبي سلمة صاحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قالت‏:‏ ثم عزم اللَّه لي فقلتها اللَّهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها قالت‏:‏ فتزوجت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وابن ماجه‏.‏

حديث جعفر بن محمد في إسناده القاسم بن عبد اللَّه بن عمر وهو متروك وقد كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين‏.‏ وقال أحمد أيضًا‏:‏ كان يضع الحديث ورواه الحاكم عن أنس في مستدركه وصححه وفي إسناده عباد بن عبد الصمد وهو ضعيف جدًا وزاد‏:‏ فقال أبو بكر وعمر هذا الخضر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما الصبر عند الصدمة الأولى‏)‏ في رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏عند أول صدمة‏)‏ ونحوها لمسلم‏.‏ والمعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر وأصل الصدمة ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ المعنى إن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة بخلاف ما بعد ذلك‏.‏ وقال غيره‏:‏ إن المراد لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره‏.‏ وأول الحديث‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر فقال‏:‏ اتقي اللَّه واصبري فقالت‏:‏ إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فقيل لها إنه النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأتت باب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت‏:‏ لم أعرفك يا رسول اللَّه فقال‏:‏ إنما الصبر عند الصدمة الأولى‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن في اللَّه عزاء من كل مصيبة‏)‏ الخ فيه دليل على أنه تستحب التعزية لأهل الميت بتعزية الخضر عليه السلام وأصل العزاء في اللغة الصبر الحسن والتعزية التصبر وعزاه صبره فكل ما يجلب للمصاب صبرًا يقال له تعزية بأي لفظ كان ويحصل به للمعزي الأجر المذكور في الأحاديث السابقة وأحسن ما يعزى به ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد قال‏:‏ ‏(‏كنا عند النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيًا لها أو ابنًا لها في الموت فقال للرسول‏:‏ ارجع إليها وأخبرها إن للَّه ما أخذ وللَّه ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب‏)‏ الحديث وسيأتي وهذا لا يختص بالصغير باعتبار السبب لأن كل شخص يصلح أن يقال له وفيه ذلك ولو سلم أن أول الحديث يختص بمن مات له صغير كان الأمر بالصبر والاحتساب المذكور آخر الحديث غير مختص به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اللَّهم أجرني‏)‏ قال القاضي‏:‏ يقال أجرني بالقصر والمد حكاهما صاحب الأفعال‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ وأكثر أهل اللغة قالوا هو مقصور لا يمد ومعنى أجره اللَّه أعطاه أجره وجزاه صبره وهمه في مصيبته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأخلف لي‏)‏ قال النووي‏:‏ هو بقطع الهمزة وكسر اللام‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله أخلف اللَّه عليك أي رد عليك مثله فإن ذهب مالًا يتوقع مثله بأن ذهب والد أو عم قيل له خلف اللَّه عليك بغير ألف أي كان اللَّه خليفة منه عليك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا أجره اللَّه‏)‏ قال النووي‏:‏ هو بقصر الهمزة ومدها والقصر أفصح وأشهر كما سبق‏.‏

قوله ‏(‏ثم عزم اللَّه لي فقلتها‏)‏ أي خلق فيَّ عزمًا‏.‏

 باب صنع الطعام لأهل الميت وكراهته منهم للناس

1 - عن عبد اللَّه بن جعفر قال‏:‏ ‏(‏لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏

2 - وعن جرير بن عبد اللَّه البجلي قال‏:‏ ‏(‏كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

3 - وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا عقر في الإسلام‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏ وقال‏:‏ قال عبد الرزاق‏:‏ كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة في الجاهلية‏.‏

حديث عبد اللَّه بن جعفر أخرجه أيضًا الشافعي وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي وأخرجه أيضًا أحمد والطبراني وابن ماجه من حديث أسماء بنت عميس وهي والدة عبد اللَّه بن جعفر وحديث جرير أخرجه أيضًا ابن ماجه وإسناده صحيح وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اصنعوا لآل جعفر‏)‏ فيه مشروعية القيام بمؤنة أهل الميت مما يحتاجون إليه من الطعام لاشتغالهم عن أنفسهم بما دهمهم من المصيبة قال الترمذي‏:‏ وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت بشيء لشغلهم بالمصيبة وهو قول الشافعي انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت‏)‏ الخ يعني أنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه وأكل الطعام عندهم نوعًا من النياحة لما في ذلك من التثقيل عليهم وشغلتهم مع ما هم فيه من شغلة الخاطر بموت الميت وما فيه من مخالفة السنة لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت طعامًا فخالفوا ذلك وكلفوهم صنعة الطعام لغيرهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا عقر في الإسلام‏)‏ فيه دليل على عدم جواز العقر في الإسلام كما كان في الجاهلية قال الخطابي‏:‏ كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف فنحن نعقرها عند قبره حتى تأكلها السباع والطير فيكون مطعمًا بعد مماته كما كان مطعمًا في حياته قال‏:‏ ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكبًا ومن لم يعقر عنده حشر راجلًا انتهى‏.‏ وهذا إنما يتم على فرض أنهم كانوا يعقرون الإبل فقط لا على ما نقله أبو داود عن عبد الرزاق أنهم كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة‏.‏

 باب ما جاء في البكاء على الميت وبيان المكروه منه

1 - عن جابر قال‏:‏ ‏(‏أصيب أبي يوم أُحد فجعلت أبكي فجعلوا ينهوني ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ تبكين أولا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

2 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏ماتت زينب بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بيده وقال‏:‏ مهلا يا عمر ثم قال‏:‏ إياكن ونعيق الشيطان ثم قال‏:‏ إنه مهما كان من العين والقلب فمن اللَّه عز وجل ومن الرحمة وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

حديث ابن عباس فيه علي بن زيد وفيه كلام وهو ثقة وقد أشار إلى الحديث الحافظ في التلخيص وسكت عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعلت أبكي‏)‏ في لفظ للبخاري‏:‏ ‏(‏فجعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي‏)‏ وفي لفظ آخر له‏:‏ ‏(‏فذهبت أريد أن أكشف عنه فنهاني قومي ثم ذهبت أكشف عنه فنهاني قومي‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ينهوني‏)‏ في رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏وينهوني‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا ينهاني‏)‏ فيه دليل على جواز البكاء الذي لا صوت معه وسيأتي تحقيق ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعلت عمتي فاطمة تبكي‏)‏ قال في الفتح‏:‏ هي شقيقة أبيه عبد اللَّه بن عمرو‏.‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏(‏فسمع صوت نائحة فقال‏:‏ من هذه فقالوا‏:‏ بنت عمرو أو أخت عمرو‏)‏ والشك من سفيان والصواب بنت عمرو ووقع في الإكليل للحاكم تسميتها هند بنت عمرو فلعل لها اسمين أو أحدهما اسمها والآخر لقبها أو كانتا جميعًا حاضرتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تبكين أو لا تبكين‏)‏ قيل هذا شك من الراوي هل استفهم أو نهي والظاهر أنه ليس بشك وإنما المراد به التخيير والمعنى أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه ومن كان بهذه المثابة تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكى عليه بل يفرح بما صار إليه‏.‏ وفيه إذن بالبكاء المجرد مع الإرشاد إلى أولوية الترك لمن كان بهذه المنزلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إياكن ونعيق الشيطان‏)‏ هو النواح والصراخ المنهي عنه بالأحاديث الآتية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنه مهما كان من العين والقلب‏)‏ الخ فيه دليل على جواز البكاء المجرد عما لا يجوز من فعل اليد كشق الجيب واللطم ومن فعل اللسان كالصراخ ودعوى الويل والثبور ونحو ذلك‏.‏

3 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد اللَّه بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية فقال‏:‏ قد قضى فقالوا‏:‏ لا يا رسول اللَّه فبكى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلما رأى القوم بكاءه بكوا قال‏:‏ ألا تسمعون أن اللَّه لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم‏)‏‏.‏

4 - وعن أسامة بن زيد قال‏:‏ ‏(‏كنا عند النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيًا لها في الموت فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ارجع إليها فأخبرها أن للَّه ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب فعاد الرسول فقال‏:‏ إنها أقسمت لتأتينها قال‏:‏ فقام النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل قال‏:‏ فانطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال سعد‏:‏ ما هذا يا رسول اللَّه قال‏:‏ هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب عباده وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء‏)‏‏.‏

متفق عليهما‏.‏

قوله ‏(‏اشتكى‏)‏ أي ضعف وشكوى بغير تنوين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما دخل عليه‏)‏ زاد مسلم‏:‏ ‏(‏فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأصحابه الذين معه‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجده في غشية‏)‏ قال النووي‏:‏ بفتح الغين وكسر الشين المعجمتين وتشديد الياء قال القاضي‏:‏ هكذا رواية الأكثرين قال‏:‏ وضبطه بعضهم بإسكان الشين وتخفيف الياء‏.‏ وفي رواية البخاري‏:‏ ‏(‏في غاشية‏)‏ وكله صحيح وفيه قولان أحدهما من يغشاه من أهله والثاني ما يغشاه من كرب الموت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما رأى القوم بكاءه بكوا‏)‏ هذا فيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ولم يعترض بمثل ما اعترض به هناك فدل على أنه تقرر عندهم العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا تسمعون‏)‏ لا يحتاج إلى مفعول لأنه جعل كالفعل اللازم أي لا توجدون السماع وفيه إشارة إلا أنه فهم من بعضهم الإنكار فبين لهم الفرق بين الحالتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن اللَّه‏)‏ بكسر الهمزة لأنه ابتداء كلام وفيه دليل على جواز البكاء والحزن اللذين لا قدرة للمصاب على دفعهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن يعذب بهذا‏)‏ أي إن قال سوءًا أو يرحم إن قال خيرًا ويحتمل أن يكون معنى قوله ويرحم أي إن لم ينفذ الوعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إحدى بناته‏)‏ هي زينب كما وقع عند ابن أبي شيبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن صبيًا لها‏)‏ قيل هو علي بن أبي العاص بن الربيع وهو من زينب وفيه نظر لأن الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالأخبار ذكروا أن عليًا المذكور عاش حتى ناهز الحلم وأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة وهذا لا يقال في حقه صبيًا عرفًا وإن جاز من حيث اللغة‏.‏ وفي الأنساب للبلازري أن عبد اللَّه بن عثمان بن عفان من رقية بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لما مات وضعه النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في حجره وقال‏:‏ إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء‏.‏ وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ثقل ابن لفاطمة فبعثت إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فذكر نحو حديث الباب وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء فعلى هذا الابن المذكور محسن ابن علي وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرًا في حياة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فهذا أولى إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت أن المرسلة زينب لكن الصواب في حديث الباب أن المراسلة زينب كما قال الحافظ وأن الولد صبية كما في مسند أحمد وكذا أخرجه أبو سعيد ابن الأعرابي في معجمه‏.‏ ويدل على ذلك ما عند أبي داود بلفظ‏:‏ ‏(‏إن ابنتي أو ابني‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏إن ابنتي قد حضرت‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن للَّه ما أخذ‏)‏ قدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخرًا في الواقع لما يقتضيه المقام والمعنى أن الذي أراد اللَّه أن يأخذ هو الذي كان أعطاه فإن أخذه أخذ ما هو له فلا ينبغي الجزع لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الموت أو ثوابهم على المصيبة أو ما هو أعم من ذلك‏.‏ وما في الموضعين مصدرية ويجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكل شيء عنده بأجل مسمى‏)‏ أي كل من الأخذ والإعطاء أو من الأنفس أو ما هو أعم من ذلك وهي جملة ابتدائية معطوفة على الجمل المذكورة ويجوز في كل النصب عطفًا على اسم أن فينسحب التأكيد عليه ومعنى العندية العلم فهو من مجاز الملازمة والأجل يطلق على الحد الأخير وعلى مطلق العمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مسمى‏)‏ أي معلوم أو مقدر أو نحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولتحتسب‏)‏ أي تنو بصبرها طلب الثواب من ربها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونفسه تقعقع‏)‏ بفتح التاء والقافين والقعقعة حكاية صوت الشن اليابس إذا حرك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كأنها في شنة‏)‏ بفتح الشين وتشديد النون القربة الخلقة اليابسة شبه البدن بالجلد اليابس وحركة الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ففاضت عيناه‏)‏ أي النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقد صرح به في رواية شعبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذه رحمة‏)‏ أي الدمعة أثر رحمة وفيه دليل على جواز ذلك وإنما المنهي عنه الجزع وعدم البصر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء‏)‏ الرحماء جمع رحيم وهو من صيغ المبالغة ومقتضاه أن رحمة اللَّه تعالى تختص لمن اتصف بالرحمة وتحقق بها بخلاف من فيه أدنى رحمة لكن ثبت عند أبي داود وغيره من حديث عبد اللَّه بن عمرو‏:‏ ‏(‏الراحمون يرحمهم الرحمن‏)‏ والراحمون جمع راحم فيدخل فيه من فيه أدنى رحمة‏.‏ ومن في قوله من عباده بيانية وهي حال من المفعول قدمت ليكون أوقع‏.‏

5 - وعن عائشة‏:‏ ‏(‏أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر قالت‏:‏ فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

6 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لما قدم من أُحد سمع نساء من عبد الأشهل يبكين على هلكاهن فقال‏:‏ لكن حمزة لا بواكي له فجئن نساء الأنصار فبكين على حمزة عنده فاستيقظ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ ويحهن أيتن ههنا يبكين حتى الآن مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه‏.‏

7 - وعن جابر بن عتيك‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم جاء يعود عبد اللَّه بن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع فقال‏:‏ غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية قالوا‏:‏ وما الوجوب يا رسول اللَّه قال‏:‏ الموت‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والنسائي‏.‏

حديث عائشة وابن عمر أشار إليهما الحافظ في التلخيص وسكت عنهما ورجال إسناد حديث ابن عمر ثقات إلا أسامة بن زيد الليثي ففيه مقال‏.‏ وقد أخرج له مسلم وحديث جابر بن عتيك أخرجه أيضًا أحمد وابن حبان والحاكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأبو بكر وعمر‏)‏ الخ محل الحجة من هذا الحديث تقرير النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لهما على البكاء وعدم إنكاره عليهما مع أنه قد حصل منهما زيادة على مجرد دمع العين ولهذا فرقت عائشة وهي في حجرتها بين بكاء أبي بكر وعمر ولعل الواقع منهما مما لا يمكن دفعه ولا يقدر على كتمه ولم يبلغ إلى الحد المنهي عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن حمزة لا بواكي له‏)‏ هذه المقالة منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مع عدم إنكاره للبكاء الواقع من نساء عبد الأشهل على هلكاهن تدل على جواز مجرد البكاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ولا يبكين على هالك بعد اليوم‏)‏ ظاهره المنع من مطلق البكاء وكذلك قوله في حديث جابر بن عتيك‏:‏ ‏(‏فإذا وجب فلا تبكين باكية‏)‏ وذلك يعارض ما في الأحاديث المذكورة في الباب من الإذن بمطلق البكاء بعد الموت ويعارض أيضًا سائر الأحاديث الواردة في الإذن بمطلق البكاء مما لم يذكره المصنف كحديث عائشة في قصة عثمان بن مظعون عند أبي داود والترمذي وحديث أبي هريرة عند النسائي وابن ماجه وابن حبان بلفظ‏:‏ ‏(‏مر على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بجنازة فانتهرهن عمر فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ دعهن يا ابن الخطاب فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب‏)‏ وحديث بريدة عند مسلم في زيارته صلى اللَّه عليه وآله وسلم قبر أمه وسيأتي‏.‏ وحديث أنس عند الشيخين‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ذرفت عيناه لما جعل ابنه إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه فقيل له في ذلك فقال‏:‏ إنها رحمة ثم قال‏:‏ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا‏)‏ وهو عند الترمذي من حديث جابر بلفظ‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن‏:‏ أتبكي أو لم تكن نهيت عن البكاء فقال‏:‏ لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان‏)‏ الحديث قال الترمذي‏:‏ حسن‏.‏ فيجمع بين الأحاديث بحمل النهي عن البكاء مطلقًا ومقيدًا ببعد الموت على البكاء المفضي إلى ما لا يجوز من النوح والصراخ وغير ذلك والإذن به على مجرد البكاء الذي هو دمع العين وما لا يمكن دفعه من الصوت وقد أرشد إلى هذا الجمع قوله‏:‏ ‏(‏ولكن نهيت عن صوتين‏)‏ الخ وقوله في حديث ابن عباس المتقدم‏:‏ ‏(‏إنه مهما كان من العين والقلب فمن اللَّه عز وجل ومن الرحمة‏)‏ وقوله في حديث ابن عمر السابق‏:‏ ‏(‏إن اللَّه لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب‏)‏ فيكون معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا يبكين على هالك بعد اليوم‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فإذا وجب فلا تبكين باكية‏)‏ النهي عن البكاء الذي يصحبه شيء مما حرمه الشارع‏.‏ وقيل إنه يجمع بأن الأذن بالبكاء قبل الموت والنهي عنه بعده ويرد بحديث أبي هريرة المذكور قريبًا وبحديث عائشة الذي ذكره المصنف‏.‏ وبحديث بريدة في قصة زيارته صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأمه‏.‏ وبحديث جابر وابن عباس المذكورين في أول الباب وقيل إنه يجمع بحمل أحاديث النهي عن البكاء بعد الموت على الكراهية وقد تمسك بذلك الشافعي فحكي عنه كراهة البكاء بعد الموت والجمع الذي ذكرناه أولًا هو الراجح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالوا وما الوجوب‏)‏ الخ في رواية لأحمد أن بعض رواة الحديث قالوا الوجوب إذا دخل قبره والتفسير المرفوع أصح وأرجح‏.‏

 باب النهي عن النياحة والندب وخمش الوجوه ونشر الشعر ونحوه والرخصة في يسير الكلام من صفة الميت

1 - عن ابن مسعود‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوة الجاهلية‏)‏‏.‏

2 - وعن أبي بردة قال‏:‏ ‏(‏وجع أبو موسى وجعًا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا فلما أفاق قال‏:‏ أنا بريء ممن برئ منه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة‏)‏‏.‏

3 - وعن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ إنه من نيح عليه يعذب بما نيح عليه‏)‏‏.‏

4 - وعن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إن الميت يعذب ببكاء الحي‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ببعض بكاء أهله عليه‏)‏‏.‏

5 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إن الميت يعذب ببكاء أهله‏)‏‏.‏

6 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏إنما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن اللَّه ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه‏)‏‏.‏

متفق على هذه الأحاديث‏.‏ ولأحمد ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏الميت يعذب في قبره بما نيح عليه‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس منا‏)‏ أي من أهل سنتنا وطريقتنا وليس المراد به إخراجه من الدين وفائدة إيراد هذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته لست منك ولست مني أي ما أنت على طريقتي‏.‏ وحكى عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويل هذه اللفظة ويقول ينبغي أن نمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر وقيل المعنى ليس على ديننا الكامل أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله حكاه ابن العربي قال الحافظ‏:‏ ويظهر لي إن هذا النفي يفسره التبرء الذي في حديث أبي موسى وأصل البراءة الانفصال من الشيء وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته مثلًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ضرب الخدود‏)‏ خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وشق الجيوب‏)‏ جمع جيب بالجيم وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره وهو من علامات السخط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ودعا بدعوة الجاهلية‏)‏ أي من النياحة ونحوها وكذا الندبة كقولهم واجبلاه وكذا الدعاء بالويل والثبور كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجع‏)‏ بكسر الجيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في جحر امرأة من أهله‏)‏ الخ في رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏أغمي على أبي موسى فأقبلت امرأته أم عبد اللَّه تصيح برنة‏)‏ ولأبي نعيم في المستخرج على مسلم‏:‏ ‏(‏أغمي على أبي موسى فصاحت امرأته بنت أبي دومة‏)‏ وذلك يدل على أن الصائحة أم عبد اللَّه بنت أبي دومة واسمها صفية قاله عمر بن شبة في تاريخ البصرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنا بريء‏)‏ قال المهلب‏:‏ أي ممن فعل ذلك الفعل ولم يرد نفيه عن الإسلام والبراءة الانفصال كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الصالقة‏)‏ بالصاد المهملة والقاف أي التي ترفع صوتها بالبكاء ويقال فيه بالسين بدل الصاد ومنه قوله تعالى ‏{‏سلقوكم بألسنة حداد‏}‏ وعن ابن الأعرابي الصلق ضرب الوجه والأول أشهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والحالقة‏)‏ هي التي تحلق شعرها عند المصيبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والشاقة‏)‏ هي التي تشق ثوبها‏.‏ ولفظ مسلم‏:‏ ‏(‏أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق‏)‏ أي حلق شعره وصلق صوته أي رفعه وخرق ثوبه‏.‏

والحديثان يدلان على تحريم هذه الأفعال لأنها مشعرة بعدم الرضا بالقضاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من نيح عليه يعذب بما نيح عليه‏)‏ ظاهره وظاهر حديث عمر وابنه المذكورين بعده إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر هذه الأحاديث جماعة من السلف منهم عمر وابنه‏.‏ وروي عن أبي هريرة أنه رد هذه الأحاديث وعارضها بقوله ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ وروى عنه أبو يعلى أنه قال‏:‏ تاللَّه لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل اللَّه فاستشهد فعمدت امرأته سفهًا وجهلًا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة‏.‏ وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم الشيخ أبو حامد وغيره‏.‏

وذهب جمهور العلماء إلى تأويل هذه الأحاديث لمخالفتها للعمومات القرآنية وإثباتها لتعذيب من لا ذنب له واختلفوا في التأويل فذهب جمهورهم كما قال النووي إلى تأويلها بمن أوصى بأن يبكى عليه لأنه بسببه ومنسوب إليه قالوا وقد كان ذلك من عادة العرب كما قال طرفة بن العبد‏:‏

إذا مت فابكيني بما أنا أهله * وشقي عليَّ الجيب يا أم معبد

قال في الفتح‏:‏ واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية والحديث دال على أنه إنما يقع عند الامتثال والجواب أنه ليس في السياق حصر فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلًا انتهى‏.‏ ومن التأويلات ما حكاه الخطابي أن المراد أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه وذلك أن شدة بكائهم غالبًا إنما تقع عند دفنه وفي تلك الحال يسئل ويبتدأ به عذاب القبر فيكون معنى الحديث على هذا أن الميت يعذب حال بكاء أهله عليه ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سببًا لتعذيبه‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ولا يخفى ما فيه من التكلف ولعل قائله أخذه من قول عائشة‏:‏ ‏(‏إنما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ ومنها ما جزم به القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه وإن اللام في الميت لمعهود معين واحتجوا بما أخرجه مسلم من حديث عائشة أنها قالت‏:‏ ‏(‏يغفر اللَّه لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكن نسي أو أخطأ إنما مر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم على يهودية‏)‏ فذكرت الحديث‏.‏ وأخرج البخاري نحوه عنها‏.‏ ومنها أن ذلك يختص بالكافر دون المؤمن واستدل لذلك بحديث عائشة المذكور في الباب قال في الفتح‏:‏ وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة وفيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل بما استشعرت من معارضة القرآن‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة والنسيان وعلى أنه سمع بعضًا أو لم يسمع بعضًا بعيد لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح‏.‏ ومنها أن ذلك يقع لمن أهمل نهي أهله عن ذلك وهو قول داود وطائفة‏.‏ قال ابن المرابط‏:‏ إذا علم المرء ما جاء في النهي عن النوح وعرف أن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده‏.‏ ومنها أنه يعذب بسبب الأمور التي يبكيه أهله بها ويندبونه لها فهم يمدحونه بها وهو يعذب بصنيعه وذلك كالشجاعة فيما لا يحل والرياسة المحرمة وهذا اختيار ابن حزم وطائفة واستدل بحديث ابن عمر المتقدم بلفظ‏:‏ ‏(‏ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه‏)‏ وقد رجح هذا الإسماعيلي وقال‏:‏ قد كثر كلام العلماء في هذه المسألة وقال كل فيها باجتهاده على حسب ما قدر له ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغزون ويسبون ويقتلون وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرمة فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به لأن الميت يندب بأحسن أفعاله وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق عليها العقاب‏.‏ ومنها أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه أهله ويدل على ذلك حديث أبي موسى وحديث النعمان بن بشير الآتيان‏.‏ ومنها أن معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها وهذا اختيار أبي جعفر الطبري ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم من حديث قيلة بفتح القاف وسكون الباء التحتية وفيه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه فيا عباد اللَّه لا تعذبوا موتاكم‏)‏ قال الحافظ‏:‏ وهو حسن الإسناد‏.‏ وأخرج أبو داود والترمذي أطرافًا منه‏.‏ قال الطبري‏:‏ ويؤيد ما قال أبو هريرة أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم ثم ساقه بإسناد صحيح وقد وهم المغربي في شرح بلوغ المرام فجعل قول أبي هريرة هذا حديثًا وصحف الطبري بالطبراني‏.‏ ومن أدلة هذا التأويل حديث النعمان بن بشير الآتي وكذلك حديث أبي موسى لما فيهما من أن ذلك يبلغ الميت‏.‏

قال ابن المرابط‏:‏ حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه‏.‏ واعترضه ابن رشيد فقال‏:‏ ليس نصًا وإنما هو محتمل فإن قوله يستعبر إليه صويحبه ليس نصًا في أن المراد به الميت بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي وأن الميت حينئذ يعذب ببكاء الجماعة عليه‏.‏ قال في الفتح‏:‏ ويحتمل أن يجمع بين هذه التأويلات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلًا من كان طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنيعه ومن كان ظالمًا فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به ومن كان يعرف من أهله النياحة وأهمل نهيهم عنها فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم عز وجل‏.‏ قال‏:‏ وحكى الكرماني تفصيلًا آخر وحسنه وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة فيحمل قوله ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ على يوم القيامة وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ انتهى‏.‏ وأنت خبير بأن الآية عامة لأن الوزر المذكور فيها واقع في سياق النفي والأحاديث المذكورة في الباب مشتملة على وزر خاص وتخصيص العمومات القرآنية بالأحاديث الأحادية هو المذهب المشهور الذي عليه الجمهور فلا وجه لما وقع من رد الأحاديث بهذا العموم ولا ملجئ إلى تجشم المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار الآية‏.‏ وأما ما روته عائشة عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال ذلك في الكافر أو في يهودية معينة فهو غير مناف لرواية غيرها من الصحابة لأن روايتهم مشتملة على زيادة والتنصيص على بعض أفراد العام لا يوجب نفي الحكم عن بقية الأفراد لما تقرر في الأصول من عدم صحة التخصيص بموافق العام والأحاديث التي ذكر فيها تعذيب مختص بالبرزخ أو بالتألم أو بالاستعبار كما في حديث قيلة لا تدل على اختصاص التعذيب المطلق في الأحاديث بنوع منها لأن التنصيص على ثبوت الحكم لشيء بدون مشعر بالاختصاص به لا ينافي ثبوته لغيره فلا إشكال من هذه الحيثية وإنما الإشكال في التعذيب بلا ذنب وهو مخالف لعدل اللَّه وحكمته على فرض عدم حصول سبب من الأسباب التي يحسن عندها في مقتضى الحكمة كالوصية من الميت بالنوح وإهمال نهيهم عنه والرضا به وهذا يؤل إلى مسألة التحسين والتقبيح والخلاف فيها بين طوائف المتكلمين معروف ونقول ثبت عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فسمعنا وأطعنا ولا نزيد على هذا‏.‏

واعلم أن النووي حكى إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين‏.‏

7 - وعن أبي مالك الأشعري‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال‏:‏ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

8 - وعن أبي موسى‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة واعضداه واناصراه واكاسباه جبذ الميت وقيل له أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسبها‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول واجبلاه واسنداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت‏)‏ رواه الترمذي‏.‏

9 - وعن النعمان بن بشير قال‏:‏ ‏(‏أغمي على عبد اللَّه بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي واجبلاه وا كذا وا كذا تعدد عليه فقال حين أفاق‏:‏ ما قلت شيئًا إلا قيل لي أنت كذلك فلما مات لم تبك عليه‏)‏‏.‏

رواه البخاري‏.‏

حديث أبي موسى رواه أيضًا الحاكم وصححه وحسنه الترمذي‏.‏ وحديث النعمان أخرجه البخاري في المغازي من صحيحه وأخرجه أيضًا مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والطعن في الأنساب‏)‏ هو من المعاصي التي يتساهل فيها العصاة‏.‏ وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت‏)‏ وقد اختلف في توجيه إطلاق الكفر على من فعل هاتين الخصلتين‏.‏ قال النووي‏:‏ فيه أقوال أصحها أن معناهما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية‏.‏ والثاني أنه يؤدي إلى الكفر‏.‏ والثالث كفر النعمة والإحسان‏.‏ والرابع أن ذلك في المستحل انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والاستسقاء بالنجوم‏)‏ هو قول القائل مطرنا بنوء كذا أو سؤال المطر من الأنواء فإن كان ذلك على جهة اعتقاد أنها المؤثرة في نزول المطر فهو كفر‏.‏ وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ يقول اللَّه أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل اللَّه ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب‏)‏ وإخبار النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بأن هذه الأربع لا تتركها أمته من علامات نبوته فإنها باقية فيهم على تعاقب العصور وكرور الدهور لا يتركها من الناس إلا النادر القليل‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الميت يعذب ببكاء الحي‏)‏ قد تقدم الكلام عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واعضداه‏)‏ الخ أي أنه كان لها كالعضد وكان لها ناصرًا وكاسبًا وكان لها كالجبل تأوي إليه عند طروق الحوادث فتعتصم به ومستندًا تستند إليه في أمورها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يلهزانه‏)‏ أن يلكزانه‏.‏

وهذه الأحاديث تدل على تحريم النياحة وهو مذهب العلماء كافة كما قال النووي إلا ما يروى عن بعض المالكية فإنه قال‏:‏ النياحة ليست بحرام واستدل بما أخرجه مسلم عن أم عطية قالت‏:‏ ‏(‏لما نزلت هذه الآية ‏{‏يبايعنك على أن لا يشركن باللَّه شيئًا ولا يعصينك في معروف‏}‏ قالت‏:‏ كان منه النياحة قالت‏:‏ فقلت يا رسول اللَّه إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إلا آل فلان‏)‏ وغاية ما فيه الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة فما الدليل على حل ذلك لغيرها في غير آل فلان‏.‏ وللشارع أن يخص من العموم ما شاء وقد استشكل القاضي عياض هذا الحديث ولا مقتضى لذلك فإن للشارع أن يخص من شاء بما شاء‏.‏ وقد ورد لعن النائحة والمستمعة من حديث أبي سعيد عند أحمد ومن حديث ابن عمر عند الطبراني والبيهقي ومن حديث أبي هريرة عند ابن عدي‏.‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ وكلها ضعيفة‏.‏ وأخرج مسلم من حديث أم عطية أيضًا قالت‏:‏ ‏(‏أخذ علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مع البيعة أن لا ننوح فما وفت منا امرأة إلا خمس فذكرت منهن أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وثبت عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه أمر رجلًا أنه ينهى نساء جعفر عن البكاء كما في البخاري ومسلم والمراد بالبكاء ههنا النوح كما تقدم‏.‏

10 - وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏لما ثقل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة‏:‏ واكرب أبتاه فقال‏:‏ ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت‏:‏ يا أبتاه أجاب ربًا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه فلما دفن قالت فاطمة‏:‏ أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم التراب‏)‏‏.‏

رواه البخاري‏.‏

11 - وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن أبا بكر دخل على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال‏:‏ وانبياه واخليلاه واصفياه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

قوله في حديث أنس الأول‏:‏ ‏(‏واكرب أبتاه‏)‏ قال في الفتح‏:‏ في هذا نظر وقد رواه مبارك بن فضالة عن ثابت بلفظ‏:‏ ‏(‏واكرباه‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أطابت أنفسكم‏)‏ قال في الفتح‏:‏ ولسان حال أنس لم تطب أنفسنا لكن قهرناها امتثالًا لأمره‏.‏ وقد قال أبو سعيد‏:‏ ما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا‏.‏ ومثله عن أنس يريد أن تغيرت عما عهدنا من الألفة والصفاء والرقة لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم‏.‏ ويؤخذ من قول فاطمة الخ جواز ذكر الميت بما هو متصف به إن كان معلومًا‏.‏ قال الكرماني‏:‏ وليس هذا من نوح الجاهلية من الكذب ورفع الصوت وغيره إنما هو ندبة مباحة انتهى‏.‏ وعلى فرض صدق اسم النوح في لسان الشارع على مثل هذا فليس في فعل فاطمة وأبي بكر دليل على جواز ذلك لأن الصحابي لا يصلح للحجية كما تقرر في الأصول‏.‏ ويحمل ما وقع منهما على أنهما لم يبلغهما أحاديث النهي عن ذلك الفعل ولم ينقل أن ذلك وقع منهما بمحضر جميع الصحابة حتى يكون كالإجماع منهم على الجواز لسكوتهم عن الإنكار والأصل أيضًا عدم ذلك‏.‏

 باب الكف عن ذكر مساوي الأموات

1 - عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري والنسائي‏.‏

2 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي‏.‏

حديث ابن عباس أخرجه عنه بمعناه الطبراني في الأوسط بإسناد فيه صالح بن نبهان وهو ضعيف وأخرج نحوه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث سهل بن سعد والمغيرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الأموات‏)‏ ظاهره النهي عن سب الأموات على العموم وقد خصص هذا العموم بما تقدم في حديث أنس وغيره أنه قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم عند ثنائهم بالخير والشر‏:‏ ‏(‏وجبت أنتم شهداء اللَّه في أرضه‏)‏ ولم ينكر عليهم‏.‏ وقيل أن اللام في الأموات عهدية والمراد بهم المسلمون لأن الكفار مما يتقرب إلى اللَّه عز وجل بسبهم ويدل على ذلك قوله في حديث ابن عباس المذكور‏:‏ ‏(‏لا تسبوا أمواتنا‏)‏ وقال القرطبي في الكلام على حديث وجبت‏:‏ إنه يحتمل أجوبة‏:‏ الأول أن الذي كان يحدث عنه بالسر مستظهرًا به فيكون من باب لا غيبة لفاسق أو كان منافقًا أو يحمل النهي على ما بعد الدفن والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه أو يكون هذا النهي العام متأخرًا فيكون ناسخًا‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏ وقال ابن رشيد ما محصله‏:‏ إن السب يكون في حق الكافر وفي حق المسلم أما في حق الكافر فيمتنع إذا تأذى به الحي المسلم وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة عليه وقد يجب في بعض المواضع وقد تكون مصلحة للميت كمن علم أنه أخذ مالًا بشهادة زور ومات الشاهد فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن من بيده المال يرده إلى صاحبه والثناء على الميت بالخير والشر من باب الشهادة لا من باب السب انتهى‏.‏ والوجه تبقية الحديث على عمومه إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر وجرح المجروحين من الرواة أحياءً وأمواتًا لإجماع العلماء على جواز ذلك وذكر ذلك مساوي الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ سب الأموات يجري مجرى الغيبة فإن كان أغلب أحوال المرء الخير وقد تكون منه الفلتة فالاغتياب له ممنوع وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة له وكذلك الميت انتهى‏.‏ ويتعقب بأن ذكر الرجل بما فيه حال حياته قد يكون لقصد زجره وردعه عن المعصية أو لقصد تحذير الناس منه وتنفيرهم وبعد موته قد أفضى إلى ما قدم فلا سواء وقد عملت عائشة رواية هذا الحديث بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه كما روى ذلك عنها عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة ورواه ابن حبان من وجه آخر وصححه والمتحري لدينه في اشتغاله بعيوب نفسه ما يشغله عن نشر مثالب الأموات وسب من لا يدري كيف حاله عند بارئ البريات ولا ريب أن تمزيق عرض من قدم على من قدم وجثا بين يدي من هو بما تكنه الضمائر أعلم مع عدم ما يحمل على ذلك من جرح أو نحوه أحموقة لا تقع لمتيقظ ولا يصاب بمثلها متدين بمذهب ونسأل اللَّه السلامة بالحسنات ويتضاعف عند وبيل عقابها الحسرات‏.‏ اللَّهم اغفر لنا تفلتات اللسان والقلم في هذه الشعاب والهضاب وجنبنا عن سلوك هذه المسالك التي هي في الحقيقة مهالك ذوي الألباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا‏)‏ أي وصلوا إلى ما عملوا من خير وشر والربط بهذه العلة من مقتضيات الحمل على العموم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتؤذوا الأحياء‏)‏ أي فيتسبب عن سبهم أذية الأحياء من قرابتهم ولا يدل هذا على جواز سب الأموات عند عدم تأذي الأحياء كمن لا قرابة له أو كانوا لا يبلغهم ذلك لأن سب الأموات منهي عنه للعلة المتقدمة ولكونه من الغيبة التي وردت الأحاديث بتحريمها فإن كان سببًا لأذية الأحياء فيكون محرمًا من جهتين وإلا كان محرمًا من جهة‏.‏ وقد أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ اذكروا محاسن أمواتكم وكفوا عن مساويهم‏)‏ وفي إسناده عمران بن أنس المكي وهو منكر الحديث كما قال البخاري‏.‏ وقال العقيلي‏:‏ لا يتابع على حديثه‏.‏ وقال الكرابيسي‏:‏ حديثه ليس بالمعروف‏.‏ وأخرج أبو داود عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه‏)‏ وقد سكت أبو داود والمنذري عن الكلام على هذا الحديث‏.‏